فن وثقافة

صالح علماني علامة من علامات الترجمة.. وسيظل نجمة ترشد في ليل الثقافة

صنع جسوراً من ورق وحروف وعبر بالأدب اللاتيني الناطق بالإسبانية والبرتغالية وغيرهما إلى بلداننا


10/11/2020

المصدر-جريدة الانباء

 


المترجم الراحل صالح علماني 


صالح علماني يقف في متحف جوزيه ساراماغو أمام ترجمته لرواية كل الأسماء




 



سألته، كان ذلك قبل أربعة أعوام، ما ذكرياتك عن هذا المكان؟ المكان كان لشبونة، منازل حي الفاما الأندلسي بسطوحها الحمراء المتدرجة والمطلة على زرقة نهر التاج.



رده أدهشني إذ قال: ليست لدي ذكريات إذ انني لأول مرة آتي إلى البرتغال!! هذه إجابة الراحل صالح علماني عندما حل ضيفا على رحلة أدبية نظمناها لزيارة مؤسسة جوزيه ساراماغو.



رجعت للفندق مندهشا، الرجل الذي صنع لنا جسورا من ورق وحروف وعبر بالأدب اللاتيني الناطق بالإسبانية والبرتغالية وغيرهما إلى بلداننا، لم يزر لشبونة! أتذكر بداية معرفتي به في مسقط عندما شاركته مهرجانا أدبيا هناك.



كان متواضعا، أبلغته تقديري الكبير كقارئ لمنجزه، توارى وراء تواضع غير مزيف. يومها بدأ التواصل بيننا حتى دعوته ليصحب مجموعة أدباء شباب في زيارة إلى لشبونة، نقابل بها محررة روايات جوزيه ساراماغو. لم يطلب أي طلب مادي معتاد من بعض المثقفين، بل اكتفى بالحد الأدنى تواضعا.



هناك بيننا، في المقهى اللشبوني الذي ارتاده فرناندو بيسوا شاعر البرتغال وجوزيه ساراماغو أديب نوبل، تحدث بخجل عن تجربته وعشقه للترجمة وبداياته، قرأ من أحدث ترجماته للشاعر بابلو نيرودا وإدواردو غاليانو.



كنا نسير معا في طرقات لشبونة الأليفة عندما ضحك وهو يتذكر موقفا حدث له مع ماريو فاراغاس يوسا لما زار الأخير سورية.



إذ دل يوسا على خطأ تاريخي في روايته «شيطانات الطفلة الخبيثة» فضرب الحائز نوبل على جبينه ‏ثم ضحك قائلا: إنها سقطة الشاعر.



وهنا يضحك علماني عندما يصف كيف فتحت زوجة يوسا دفترها لتسجل اسم دار النشر التي نشرت ترجماته لروايات زوجها بالعربية، يختم: تريد أن تطالب بحقوق زوجها في بلدان الحقوق فيها ضائعة.



يلتفت إلى الحي الأندلسي: أكثر رواية أحببت ترجمتها لساراماغو هي: قصة حصار لشبونة لكن مترجما آخر سبقني. نتحدث مع نادل فيقول: طيبة البرتغاليين تذكرني بطيبة الإسبان عندما التقيتهم أواخر السبعينيات.



جاء لدراسة الطب ثم انقلب مترجما. سألته عن يوسا وماركيز من منهما يحب أكثر. فأجاب: كلاهما: يوسا مثل مهندس معماري، وماركيز صانع عوالم لغوية.



وضعت تحويشة العمر في بيت دمشقي: أردته أن يكون مركزا ثقافيا، لكن هذه الحرب المجنونة دمرت كل شيء.. كل شيء! كان ابن فلسطين الذي ولد في حمص يحب سورية، يعشقها بل ويهيم بها، لذلك ربما.. اتخذ مواقف متقلبة عاطفية عندما رأى وطنا ترعرع فيه تتخاطفه قوى من كل لسن وأمة.



هل كان مخطئا؟ هل كان على صواب؟ كل من سيجيبون عن السؤال يعرفون مقولة قالها شاب ولد في فلسطين قبل قرون: من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر.



هذه الكلمات أتذكرها كلما تذكرت دموعه وهو يحكي عن سورية: تعرف؟ في سورية لم أعامل يوما كآخر، بل كنت مثل ابن البلد وربما أفضل!



زار الكويت، صحبته في سوق المباركية، أحب الكويت وشبابها ودورها الثقافي.



جاءني خبر وفاته وأنا في طليطلة، أزور مدرسة الترجمة التي أقامها ألفونسو العاشر لنقل العلوم من العربية إلى اللاتينية، المدرسة ذاتها التي تلقى فيها جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمية للترجمة وهي جائزة تقدمها المملكة العربية السعودية لأهم المترجمين.



كنت أقلب «تويتر» عندما مر خبر نعيه، فتداعت الصور منذ لقاء مسقط إلى لشبونة إلى الكويت.



ترددت على مسامعي ضحكاته في شوارع ومقاهي لشبونة. فرحه عندما رأى ترجمته في متحف ساراماغو فأشار للكاتبة تسنيم المذكور وطلب منها أن تلتقط له صورة مع ترجمته. فرحته كان فرحة طفل وجد شهادة تفوقه على حائط المدرسة.



رحلت، لكنك باق ما بقيت مكتبات وبقي قراء.



صالح علماني علامة من علامات الترجمة ونقل المعارف، علامة مضيئة مثل نجمة لن تنمحي وتزول من السماء، وستظل ترشد في ليل الثقافة.



المنشورات ذات الصلة